الرياضية أون لاين : غزة: كتب حسام الغرباوي
في واحدة من أكثر الصفحات السوداء في تاريخ الرياضة الفلسطينية، تواصل آلة الحرب الإسرائيلية ارتكاب جرائم ممنهجة تستهدف الإنسان والحجر، ومحاولات مسح الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، بما فيها الذاكرة الرياضية التي تُعد جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية ومسار بناء الدولة الفلسطينية.
لم تسلم المنشآت الرياضية في قطاع غزة من القصف، إذ طالت الهجمات جميع مقومات البنية الرياضية: استهداف مقر اللجنة الأولمبية الفلسطينية، ومقر الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، وعدد من الاتحادات الرياضية، إلى جانب قصف عشرات الأندية الرياضية العريقة وتدميرها والتي تمثّل إرثًا حضاريًا وثقافيًا ممتدًا عبر عقود، ناهيك عن التدمير الشامل للملاعب والصالات والمنشآت التدريبية ومراكز الشباب.
وبحسب التقديرات الميدانية، فقد تم تدمير أكثر من 286 منشأة رياضية بشكل كامل، في رسالة واضحة بأن الاحتلال يستهدف كل ما يمكن أن يشكّل ركيزة لبناء مستقبل رياضي وطني متطور.
لم يقتصر العدوان على الحجر والشجر فقط، بل طال الإنسان الرياضي في غزة بصورة ممنهجة، فقد استشهد أكثر من 980 رياضيًا وشخصية عاملة في الوسط الرياضي بين لاعب ومدرب وإداري وحكم، فيما أُصيب الآلاف بجراح متفاوتة، ولا يزال عدد كبير من الرياضيين مفقودين أو رهن الاعتقال. أضِف إلى ذلك وفاة عدد كبير من الرياضيين الكبار جراء معاناة النزوح وألم وقهر الإبادة، وأبرزهم معمر بسيسو أحد رموز الرياضة الفلسطينية، ووليد أيوب القائد الوطني ونائب رئيس اللجنة الأولمبية الفلسطينية سابقًا، والعدّاء الأولمبي ماجد أبو مراحيل أول بطل فلسطيني يشارك في أولمبياد أتلانتا.
قصص وجع لا تنتهي خلال الإبادة
استُشهد لاعب منتخب فلسطين السابق سليمان العبيد خلال محاولته توفير الطعام لأسرته عند "نقاط الموت" الأمريكية التي كانت تسمى نقاط توزيع المساعدات، في مشهد يعكس حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها الرياضيون في غزة.
وفي استمرار لمسلسل الهمجية الإسرائيلية، تعرّض منزل الكابتن صائب جندية، قائد المنتخب الوطني السابق، كما هو حال منازل كثيرة في قطاع غزة، لدمار كامل، لكن ما ميّز حالته أن كافة مقتنياته الرياضية والتاريخية التي توثّق مسيرته مسحت بالكامل ودُفنت تحت الأنقاض، لم يكن هذا الاستهداف مجرد قصف منزل، بل محاولة واضحة لطمس ذاكرته الرياضية ومسيرته الوطنية التي شكّلت علامة مضيئة في تاريخ الكرة الفلسطينية.
وفي سياق الاستهداف الممنهج للرياضيين أيضًا، اعتقلت قوات الاحتلال الكابتن محمد السويركي، لاعب المنتخب الوطني السابق، من منزله في حي التفاح شرق مدينة غزة، وتعرّض خلال فترة اعتقاله لصنوف من التعذيب الجسدي والنفسي. ويؤكد هذا الاعتقال أن الاحتلال لا يكتفي بقتل الرياضيين أو تدمير سيرتهم، بل يسعى أيضًا إلى إخضاع من بقي منهم عبر الاعتقال والتنكيل.
إن هذه الانتهاكات ليست أحداثًا عابرة، بل جزء من سياسة مُحكمة تهدف إلى محو الذاكرة الرياضية الفلسطينية، ومنع الرياضة من التطور والتحول إلى عنصر مؤثر في بناء الهوية الوطنية والوجود السياسي والدولي، ومكوّن أساسي في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
فالرياضة الفلسطينية كانت وما زالت إحدى أدوات ترسيخ الهوية الوطنية، ومساحة موحّدة تعكس الإرادة الوطنية، وتُوصل صوت الشعب الفلسطيني إلى العالم عبر المشاركات الرسمية، وهو ما يجعلها هدفًا مباشرًا لمحاولات الاحتلال تفكيكها وإلغاء حضورها.
ورغم حجم الدمار والخسائر، ما زالت الأسرة الرياضية الفلسطينية في غزة والضفة والشتات متمسكة بحقها في الحياة والوجود، فأصوات الرياضيين والأندية والاتحادات تؤكد أن الرياضة ستبقى حاضرة كقوة ناعمة تعكس صمود الشعب الفلسطيني، وأن الذاكرة الرياضية مهما تعرّضت للطمس ستظل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وعنوانًا للصمود، وشاهدًا على أن الذاكرة الوطنية لا تُمحى مهما اشتد العدوان أو تكاثفت محاولات الإلغاء.
