"إنسانية" في دوري الوطنية

"إنسانية" في دوري الوطنية

الجريح " صافي" الإصابة غيّرت حياتي والرياضة اعادت توازني

العمور : عشت نكستين كرويتين أمام عيون والدي

المزين : أسمى معاني الرياضة  دعم المرضى

غزة – كتب مصطفى جبر/

لم تقتصر الساحرة المستديرة "كرة القدم"، على المنافسة كروياً بهدف الفوز واحراز البطولات، بل تخطت كل الحدود، وأصبحت عاملاً مؤثراً، سياسياً واقتصاديا واجتماعيا وثقافياً، تسعى بواسطتها دول العالم، لإبراز تطورها ونجاحاتها، من خلال منتخباتها، إلى أن وصلت هذه اللعبة الأكثر شعبية في العالم، لتكون عاملاً مؤثراً، ورفيقاً معنوياً للإنسانية، وقيمة معنوية لذوي الاحتياجات الخاصة، وتعزيز روح الاندماج والشراكة بينهم وبين الأسوياء دون تفرقة بينهم، أو تمييز..

وإذا نظرنا للرياضة، سنجد أنّها تحمل من المعاني الإنسانية،ما بين الروح الطيبة والتسامح والتآخي والتحدي والأمل والإرادة، وغيرها من المعاني التي تسمو بالنفس البشرية. فكما مارست فئة الأسوياء دورها في أن تبني وتنهض بمجتمعها، وتكون صورة مشرفة له في المجال الرياضي، فكذلك من حق ذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى،أن ينالوا نفس الاهتمام ونفس الدور، باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، ومن الواجب أن تتغير النظرة السائدة إليهم. 

انسانية في دوري الوطنية

اللقطات الإنسانية في "دوري الوطنية موبايل"، كانت الأبرز إنسانيا على ساحتنا الرياضية، ليس فقط على صعيد الحالات الخاصة، بل على صعيد ارتباط بعض اللاعبين والمدربين، بما يعيشوه داخل بيوتهم،إضافة لاستثمار كرة القدم، في بثّ روح السعادة ورسم الابتسامة على شفاه من يستحقها، خاصة ممن يعانون من أمراض مزمنة، وغيرها من المشاهد التي أثلجت القلوب.. فمن يشاهد هذه الصور الجميلة والمشاهد والمواقف الانسانية المؤثرة، ينسى ما شاهدناه من سلبيات كشغب الملاعب والتلاعب، ويركّز على قيمة هذه الرياضة، التي تُجسِّد أعلى قيم الروح الرياضية لأشخاص بأمسّ الحاجة، لدعم معنوي، وفرحة تغمر قلوبهم الحزينة،التي يقدمها نجوم الكرة،والتي تعبِّر عن مدى التعاطف الإنساني، الذى يحمله هؤلاء الرياضيون.
انسانية في دوري الوطنية

حسرة وألم

لم يكن محمد العمور، لاعب شباب جباليا السابق واتحاد الشجاعية الحالي، يعلم أن عودة والده من الغربة بعد غياب لأكثر من 15 عشر عاماً، ومتابعته كرة القدم من جديد، ستصطدم بخيبتين متتاليتين تحت أنظار والده، الأولى كانت هبوط شباب جباليا لدوري الدرجة الأولى، تحت وطأة الظلم وشُبهات التلاعب، ومن ثم خسارة كأس المحافظات الجنوبية، في أقل من أسبوعين. خيبتان كانتا الأسوأ تأثيرا على اللاعب، الذي كان يُمنّي النفس، بأن يحتفل مع من جاء ليسانده ويدعمه.

العمور الصغير، كما يلقب في الساحة الرياضية، نظرا لانحداره من عائلة كروية كبيرة، تضم اثنين من أبرز لاعبي فلسطين، وهما ابراهيم واسماعيل العمور، كشف كواليس نهائي كأس المحافظات الجنوبية، وقال:"عند دخولي الملعب قبل المباراة بنصف ساعة، تفاجأت بوالدي الذي سبقني للملعب وقابلني حينها قائلاً "خايف عليا هيني دبرت حالي"، في ذلك الوقت،أصابني شعور بالفخر والاعتزاز بوالدي، الذي كان مغتربا في المملكة العربية السعودية لأكثر من 15 عاماً، وعاد إلينا حديثاً، فتسبّب ذلك بمنحي ثقة كبيرة، وعزماً على تحقيق الفوز وإهداء اللقب لوالدي الغالي، فقبّلت رأسه، وقدّمت كل ما بوسعي داخل الملعب، وكانت من أفضل المباريات التي قدّمتها، ولكنْ شاء القدر أن نخسر هذه المباراة، وهو الموقفُ الأصعب طوال مسيرتي الرياضية.. فبعد انتهاء المباراة جلست على الأرض، وشعرت بأن الزمن توقّف، فلم أجد أحداً بجانبي إلا والدي، حينها شعرت بالعجز والصدمة والإحباط لعدم قدرتي على إسعاد والدي.. فكانت اللحظة الأصعب والصورة المؤثرة، التي كلّما نظرت إليها أصابتني حالة من اليأس، ويضيف محمد:"والدي كان الأقرب لي بعد المباراة، خاصة أنني عشت ظروفاً صعبة وأغلقت هاتفي وحسابي على شبكة التواصل الاجتماعي، ولكنْ والدي الغالي بقي بجانبي وقدّم لي الدعم والمساندة.. رضى الولدين ومساندتهم، شعور لا يمكن وصفه فهو نعمة من الله".

أمنية لم تتحقق

"لم أجد أصعب من اللحظات، التي شهدت خسارة ابني محمد في المباراة النهائية"،بهذه الكلمات، بدأ والد اللاعب محمد، الحاج سالم العمور "66 عاماً" حديثه عن اللحظات الصعبة، وأضاف:"إنها لحظات صعبة بعد الخسارة، خاصة أنني تمنيت الفوز لابني محمد، بعد المجهود الكبير الذي بذله برفقة زملائه لاعبي شباب جباليا، ولكنْ هذا هو حال كرة القدم، يوم لك ويوم عليك، دائماً ما كنت أتخيل (محمد) على منصات التتويج، وكنت أرغب بأن أفرح معه ومع زملائه بعد عودتي لغزة، إثر غياب دام أكثر من 15 عاماً.. أعتز وأفتخر بأبنائي اللاعبين اسماعيل وابراهيم ومحمد، فهم يسيرون على خطاي عندما لعبت لسنوات ضمن صفوف فريق شباب خان يونس قبل سفري للسعودية".

مواقف مشرفة

ويتسارع الرياضيون على مستوى العالم، لتقديم الخدمات ومواقف التعاطف الإنسانية، وخاصة في ميادين كرة القدم، فهي تعتبر بوابة الشهرة الحقيقية ومحبة الجماهير للنجوم، لما لها من أثر إيجابي ونفسي على حالة المستهدفين من هذه الحالات،  وهناك بعض الأمثلة التي تعتبر فخراً رياضياً، منها استقبال نادي ريال مدريد للطفل أحمد دوابشة، الناجي الوحيد من مجزرة حرق المستوطنين لمنزله في الضفة الغربية، كما حمل برشلونة لسنوات طويلة شعار اليونيسف، وهي منظمة الطفولة العالمية، فهي جميعا مواقف مشرفة تظهر المعدن الحقيقي للاعبين، والمعنى الحقيقي للرياضة، التي وُجدت لتهذيب النفوس وتدعيم العلاقات الاجتماعية، ودعم كل من يعاني من أي مشكلات حركية ونفسية وذهنية.

انسانية في دوري الوطنية

تحدي المرض

محمود المزين، مدرب خدمات رفح وصاحب الانجاز الأكبر هذا الموسم، قاد فريقه لمنصات التتويج، وكانت الابتسامة لا تفارق وجنتيه، رغم الألم الذي يعتصر قلبه، حزناً على ابنه الأصغر عبد الرحمن، الذي يعاني من مرض "السرطان" في المعدة، والذي تم اكتشافه العام الماضي، وهو يتواجد الآن في إحدى المشافي الإسرائيلية.

الطفل عبد الرحمن البالغ من العمر 7 أعوام، تلقى مساندة ودعماً كبيراً جداً، من قبل جماهير الأخضر الرفحي ولاعبيه طوال مباريات الدوري، تعاطفاً مع حالته الصحية، كما أن تحقيق لقب الدوري، ارتبط باسم عبد الرحمن، الذي شكّل وجودُه داخل الملعب، حافزاً قوياً لدى اللاعبين،إلى أن تحقق حلم الجماهير، بتحقيق أغلى البطولات المحلية.

يقول المزين:"شعور رائع ولا يُوصف، وكان له تقدير خاص لدي.. الجميع تفاعل مع ابني الأصغر عبد الرحمن بشكل كبير، عشت لحظات صعبة وضغوطاً هائلة، وعندما كنت أشاهد ابتسامة عبد الرحمن عند تسجيل كل هدف،انتابني شعور بالفخر، وبأنني أقدم شيئاً معنوياً لعبد الرحمن برفقة اللاعبين".

أما عبد الرحمن، الذي يرقد في مستشفى "تل هشومير" داخل الأراضي المحتلة، فلم يُخفِ حبَّه الشديد للاعبَين سعيد السباخي ومحمود النيرب، كما عبّر عن سعادته أثناء تواجده في الملعب، واحتفال اللاعبين معه بعد تسجيل الأهداف، وتمنّى أن يتخلّص من المرض الذي أصابه في سن مبكرة".

انسانية في دوري الوطنية

مصدر السعادة

صورة أخرى من صور إنسانية دوري الوطنية، تجسّدت في الحالة التي يعيشها الشاب أحمد صافي، أحد سكان مدينة رفح، فهذا الشاب البالغ 28 عاماً، أصيب بشلل نصفي في عام 2012، نتيجة للأحداث الداخلية في قطاع غزة، وعانى بعدها كثيراً، فكانت كرة القدم، وفريق خدمات رفح على وجه الخصوص،مصادر للسعادة والفرح، الذي غاب عنه في السنوات الماضية.

الشاب "أحمد" أحد عشاق "الأخضر الرفحي"، عاش لحظات جميلة في هذا الموسم بعدما تُوج فريقه المفضل بلقب الدوري، ما ساهم في التخفيف من معاناته النفسية التي سببتها حالته الصحية الصعبة، ويقول:"أُصبت بشلل نصفى عام 2012،وهذه الحادثة أثّرت على شخصيتي بشكل كبير،وغيّرت مجرى حياتي من شاب طموح ومتكامل إلى شاب عاجز عن فعل أي شيء،كما أثّرت كثيراً في طريقة معاملة الناس معي،حيث واجهت صعوبات كبيرة، حتى منحني الله الصبر والقدرة على التأقلم مع ماحدث معي وحالتي بعد الإصابة".

وعن مساهمة الرياضة في التخفيف عنه، قال:"أصبحت كرة القدم بمثابة مصدر لسعادتي، فأنا أنتظر مباريات فريقي المفضل خدمات رفح بفارغ الصبر..وبالرغم من كل الصعاب،إلا أنني تغلبت عليها بإصراري على التحدي وتنقلي على حسابي الخاص.. أشعر بأجواء أُسرية بيني وبين اللاعبين الذين يقدمون الدعم والمساندة والتعاطف معي دائماً، وخاصة بعد تسجيلهم الأهداف، وهذا الشيء منحني السعادة والفخر وأنساني كل الآلام التي لازمتني، وجلوسي على مقعد متحرك.

ويضيف:"اللاعب المخضرم سعيد السباخي أشعر أنه قريب مني بشكل دائم، خاصة أنه يصافحني قبل وبعد كل مباراة، وأثناء تسجيله الأهداف برفقة لاعبي الخدمات، سعادتي لا تُوصف بما حققه الخدمات، خاصة أنني احتفلت مع الفريق، واللاعبون أهدواعدداً من الأهداف الحاسمة لي، أتمنى أن تكون الرياضة دائماً مصدراً لسعادة كل من يعاني من الإعاقة أو المرض أو غيره".

منبرا لتعزيز الاخلاق

وأمام هذه المشاهد الإنسانية، التي تستحق أن تصنف كأجمل صور دوري الوطنية موبايل، لم يعد بإمكان أي صورة سيئة، أن تتغلب على هذه المواقف المؤثرة، والتي من شأنها أن تمحو ما شاهدنا من مواقف سلبية في مسابقاتنا المحلية. فالرياضة لم تكن يوماً، مكاناً لممارسة العنف والتوحش، بل وُجدت لكي تشكل منبراً لتعزيز الأخلاق وغرس القيم الإنسانية، وما مشاهد الحاج سالم العمور، والطفل عبد الرحمن المزين، والشاب أحمد صافي، إلا خير شاهد على التعبير الصادق لقيم وأخلاقيات الساحرة المستديرة.